(مطبوع دراسي)
السنة الجامعية
2014-2015
ذ. الرحالي
الرضواني
الغرض الشعري :
الماهية والتجلي
جرى
في عرف التداول عد الغرض الشعري، في أبسط تعريف، ضربا من أضرب التعبير عن الإحساس
بآثار الرغبة والرهبة، تدعو إليه شروط الحياة الاجتماعية ومتطلبات الواقع الحضاري
العام بما يفرضانه من أنواع العلاقات وأضرب السلوك، وبما يحتمانه من أنماط العيش،
وطرق ضمان وسائل هذا العيش وتحقيقه داخل تجمع بشري معين في لحظة تاريخية معينة.
والغرض الشعري بحكم تعبيريته واختزاليته يمثل رؤية عامة للعالم ؛ رؤية تختزل الوعي
بواقع الأشياء، أو هي على الأقل تختزل الإحساس الموهم بإدراك هذه الأشياء. كما
يمثل أداة طائعة تعكس تجليات الحياة العامة، فتراه ينمو بنموها ويتعدد بتعددها على
نحو ما يخبو بخبوها، وينكمش وينحصر بانكماشها وانحصارها.
وفي
ضوء هذا الفهم للطبيعة التعبيرية، والقدرة الاختزالية والتمثيلية التي يمتاز بها
الغرض الشعري بشكل عام، يمكن تقصيه ومعالجته في التراث الإبداعي العربي القديم
عموما.
ودارس
الغرض في القصيد العربي لا مندوحة له بداءة من التيمم شطر الدرس النقدي القديم
ابتغاء مساءلته بخصوص فهمه لهذا الغرض والاسترشاد باجتهاداته وتوجيهاته ونوعية
استقرائه، وأيضا ابتغاء تلمس المؤازرة مما بلوره هذا الدرس النقدي من معايير ومما
قعده من قواعد بصدد هذا. وذلك حتى يتأتى لهذا الدارس استكناه ماهية هذا الغرض
الشعري ورسم حدوده وإدراك تجلياته وحصرها على نحو من وضوح الرؤية، لأنه دون التمكن
من ناصية هذا الضرب من المعرفة، والأخذ بتلابيبه يبقى مفهوم الغرض الشعري فضفاضا،
وموغلا في الضبابية والتشويش، وعرضة للوقوع في حبالة الخلط والابتسار نتيجة
للتماهي الذي يحصل بين مجموعة من هذه الأغراض، ونتيجة أيضا لما توهم به بعض هذه
الأغراض من إمكانية استقلالها بذاتها، وهي في واقع الأمر لا تملك من الخصوصيات
النوعية ما يؤهلها لهذا الاستقلال ويرشحها للتفرد عن سواها من الأغراض الأخرى.
والباحث
بين حنايا كتب الأدب العربي القديم التي مثلت طلائع البحث في هذا المجال، يعدم
الاهتمام بهذا البعد النقدي برغم أهميته وجدواه. فطبقات([1])
ابن سلام الجمحي (231 هـ) كانت زاوية نظرها وتقويمها تصنيفية منتهى همها ومبلغ
شأوها، إقامة الحدود بين طبقات الشعراء بالاعتماد على مقاييس زمانية (شعراء
(الجاهلية) وشعراء الإسلام) أو إقليمية (شعراء مكة وشعراء المدينة...) أو عقدية
(الشعراء اليهود وشعراء الإسلام)([2]).
وأما بن قتيبة (276 هـ) فقد تناول الموروث الشعري العربي من زاوية تصنيفية([3])
هو أيضا، اعتمد فيها ذوقه الشخصي وآراء بعض علماء العربية في الاستحسان والاستهجان
لهذا الشعر، فجعله أربعة أضرب([4])،
ثم قصد إلى المشهورين من الشعراء فترجم لهم وذكر بعض أشعارهم القليلة مرفوقة
بمناسبتها. يقول ابن قتيبة في تأكيد توجهه هذا : "وكان أكثر قصدي للمشهورين
من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب
وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأما من خفي اسمه وقل ذكره وكسد شعره وكان لا يعرف إلا بعض الخواص، فما أقل من
ذكرت من هذه الطبقة"([5]).
ومقاييس
ابن قتيبة في التصنيف كما هو بين من هذا القول غير نابعة من استقراء شامل لمتن
الشعر العربي. فقد قصد إلى المشهور من الشعراء غير أنه لم يحدد دليلا علميا
للبرهنة على هذه الشهرة التي تعود في كثير من مناحيها إلى شهرة قبائلهم وشدة
احتفائها بهم وبشعرهم مما خول لهم شيوع الذكر وذيوع الصيت، وليست عائدة في غالب
الأحيان إلى حيازتهم أعلى المراتب البيانية والتعبيرية.
وأول
من اهتم بالغرض الشعري على نحو واضح ومتميز، واعتمده وسيلة في التصنيف، بحسب
اعتقادنا، هو أبو العباس ثعلب (291 هـ) فجعله سبعة أغراض هي المديح، الهجاء،
الرثاء، التغزل، الاعتذار والتشبيه وأخيرا اقتصاص الأخبار([6])
وتلت محاولة أبي العباس هذه محاولة أبي الفرج قدامة ابن جعفر (337 هـ) الذي حصر
أغراض الشعر في ستة هي : المديح، الهجاء، المراثي، التشبيه، الوصف، الغزل([7]).
ونجد
في هذا السياق كذلك تقسيم أبي هلال العسكري (595 هـ) الغرض الشعري إلى ستة أغراض
هي : المدح، الهجاء، الرثاء، التغزل، الوصف، الفخر. ([8])
ويحصر
إبراهيم بن وهب الكاتب (ق. 4 هـ) أغراض الشعر في أربعة هي : المديح، الهجاء،
الحكمة واللهو([9])
ومن بين من قد اهتم بالغرض الشعري كذلك أبو الحسن بن رشيق (390 هـ - 456 هـ) فقد
أثبت في البدء آراء مجموعة من النقاد بهذا الصدد. ومن هؤلاء النقاد من جعل الشعر
أغراضا خمسة هي : النسيب، المدح، الهجاء، الفخر والوصف مع إدخال التشبيه والاستعارة
في عداد الوصف وهذا مذهب الرماني علي بن عيسى (386 هـ) ([10])
ومنهم من حصره في أربعة أضرب هي : المديح، الهجاء، الحكمة واللهو([11])
ومنهم من حصره في غرضين هما : المدح والهجاء([12])
وأنهى ابن رشيق هذا الغرض بإثبات رأيه الشخصي فقسم الشعر إلى عشرة أغراض هي :
النسيب، المديح، الافتخار، الرثاء، الاقتضاء، الاستنجاز، العتاب، الوعيد، الإنذار،
الهجاء، الاعتذار والوصف([13]).
وقراءة
سريعة في هذه المحاولات التقسيمية تعكس مدى التباين والاختلاف الحاصل بين النقاد
بصدد هذا. فآراؤهم ومذاهبهم تتباين في التقسيم زيادة ونقصا. وتتوزع مواقفهم ورؤاهم
واجتهاداتهم وتقويماتهم النقدية حول عدد الأغراض الشعرية التي استغرقت الإبداع
الشعري العربي يومئذ. كما تتباين حول طبيعة مجموعة من هذه الأغراض. ومرد هذا في
اعتقادنا إلى ضخامة حجم هذا الموروث الشعري العربي القديم، تلك الضخامة التي لا
تعدو أن تطرح مجموعة من الصعوبات في الاستقراء والمعالجة والتحليل. ومرده أيضا إلى
ضعف القدرة الاستقرائية والاستنباطية لدى مجموعة من هؤلاء النقاد، واكتفاء بعضهم
بترديد آراء البعض الآخر، ووقوع ثلة أخرى تحت تأثيرات التقعيد التجريدي الذي يعتمد
فرضيات فلسفية مسبقة أكثر من اعتماده على مادة هذا الشعر في ذاتها واحترام
مسبباتها وسياق ورودها. إن عد التشبيه([14])
غرضا شعريا من لدن بعض هؤلاء النقاد ينم بوضوح عما ذهبنا إليه من هشاشة الوسائل
الاستقرائية إذ كيف يتأتى لنا عده كذلك وهو وسيلة بيانية تعبيرية تناط بها مهمة
التأليف بين مكونات الخطاب الفني عموما، على غرار ما تناط بها وظيفة إنماء النصوص،
والمساهمة في توالدها على نحو من الإيحاء ابتغاء التملص من قبضة التقرير، وتسطير
الحاصل من دون أي غنى فني. إن التشبيه – برغم ابتدائية رتبته الجمالية والإقناعية
في السلمية البلاغية – يظل وسيلة لا غاية، وسيلة تساهم في تأسيس الشخصية الفنية
فحسب. ومن ثم فعده غرضا شعريا يكشف بعمق عن تبلد في الذوق وخور في آليات الاستقراء
التأويلي وتسرع في استصدار الأحكام جزافا. كما أن اعتبار الاقتضاء والاستنجاز([15])
والاعتذار([16])
موضوعات شعرية مستقلة يعكس غياب الوعي التركيبي الذي يولد القدرة على التقصي
وإرجاع الفروع إلى أصولها. لأن هذه الموضوعات ليست سوى تجليات وانعكاسات واضحة
لغرض المديح. فالشاعر المادح لا يحمل على هذا إلا إذا أحس ببعض النشاز أو الحيف أو
الخوف، ولا يعمد إلى التذكير من أجل استنجاز الوعد إلا في حالة نسيان الممدوح أو
عدم وفائه بوعده. وليس الاعتذار سوى قربان يقدم من لدن الشاعر بين يدي الممدوح
تكفيرا عن سوء في التقدير، أو عن خطأ في القول أو عن كبوة في السلوك يكون الشاعر
قد اجترحها في حق ولي نعمته. ثم إن عد النسيب لهوا كما فعل صاحب البرهان([17])،
يطمس صدق العاطفة الشعرية المكلومة، ويغمط الشاعر الولهان بالأنثى الرمز نبل
أحاسيسه تجاه من نشبت مخالب عشقها بقلبه. إنه إجحاف صارخ في حق كثير من الإبداع
الشعري العربي القديم، وإجحاف أيضا في حق من قد ثقفوا مشاعرهم الصادقة تجاه المرأة
تحت تأثيرات ظروف ذاتية وموضوعية خاصة، بل إنه طمس لسلوكات فطرية جبل عليها
الإنسان.
إن
أبرز ما يمكن تسجيله على كل هذه المحاولات الاستقرائية، وهذه الجهود في التقسيم هو
الابتعاد عن ملامسة جوهر الشعر العربي، والعجز عن الوقوف على بينة التوحد فيه.
فلقد هجنت كل هذه القراءات هذا الموروث الشعري وميعت مضامينه ورمته بفرية التفكك
وتنابذ الأوصال، حتى كأن الشاعر ليس سوى قناة تعبر من خلالها هذه الأشلاء
المتنافرة إلى مسامع المتلقي وليس ذاتا عالمة تملك القدرة على التوجيه والترشيد
والتنظير. وفي اعتقادنا أن الشعر العربي عموما يظل أعمق من هذا الابتسار في
الاستقراء بما يحمله من مضامين أصيلة وأفكار نبيلة.
إن
الشعر العربي – وربما جميع الأشعار – تعبير عن التحديات التي واجهها الإنسان
العربي عبر كل مراحل حياته، بل إنه محاولة جادة للانفلات من قبضة هذه التحديات بما
أوتي أهله من قدرة على التأمل والتأويل وما يترتب عنهما من قناعات وتطمينات تظل
أقوى من غيرها في تلك الأيام الخوالي على خلق الإحساس وإنمائه بالتوازن النفسي
والاجتماعي، وأقوى من غيرها كذلك على تحقيق سبل التسليم والاستئناس بآثار الزمان
وأفعاله وعلى توليد الإحساس بالسيطرة على مجريات الأحداث في واقعه وتوجيهها، وإن
هو عدم الوسائل القمينة بضمان مثل هذه السيطرة الفعلية.
لقد
تعاملت هذه القراءات السابقة، وكثير من القراءات اللاحقة كذلك مع مضمون هذا الشعر
العربي القديم على نحو من طمس الآيات، وكتم الأنفاس والنعت بالضد لعلة بسيطة هي أن
هذه الجهود الاستقرائية لم تكلف نفسها سبر الأغوار، وتفجير الدواخل أو هي، إن
أحسنا بها الظن، لم تكن مسلحة بوعي علمي عميق يؤهلها إلى ممارسة مثل هذه القراءة
العالمة المتأنية. فالقول إن الطلل استهلال إنما يعوج إليه الشاعر فيسأله ابتغاء
التمهيد للموضوع الرئيس جريا على سنن العادة ومألوف الأعراف، إنما هو تبليد للذوق
الشعري العربي، وإشهاد قوي على سذاجة العقل العربي، وابتعاد واضح عن إدراك كنه هذه
اللبنة الأساس من مكونات القصيدة العربية القديمة. كما أن اعتبار النسيب ذكرى
لمغامرات شخصية حزت في نفس الشاعر الفاقد فوقف واستوقف وبكى واستبكى هو كذلك تكبيل
لتوهج عاطفة الشاعر وسمو أفكاره.
إن
مثل هذا التخريج لصور معنى الطلل والنسيب عموما لينم بجلاء عما ذهبنا إليه سابقا
من أن مكمن العلة هو ضعف القدرة التأملية للناقد العربي القديم، وعجزه عن ربط
النتائج بمسبباتها. إن الطلل والمرأة في عمق الوعي العربي الحق على العكس من ذلك،
أو هما على أقل تقدير وأبسطه أبعد مغزى وأجل غاية من كل هذا. فهما رمزان دالان على
إحساس قوي بفعل الزمان وتجاوزاته المتوالية. فالشاعر العربي ما عمد إلى الحديث عن
هذين الرمزين إلا لإحساسه القوي بواقع مرير يكتم أنفاسه، ويزهق أحلامه ويعدم
آماله. فهو قوي الإحساس بتحديات الزمان الغلاب، وبدنو رسل الموت والهلاك منه في كل
لحظة من لحظات هذه الحياة المعذبة. بالأمس القريب كان الطلل ينبض حياة، ويرشح
حيوية، ويموج فاعلية وبالأمس القريب أيضا كانت الذكرى واقعا، والحنين سلوكا فعليا،
والحب ممارسة عن قرب. واليوم قد أتى على الكل أمر لا مرد له، فلم يبق من الديار
إلى النؤي والأثافي وبعض خيوط الرماد وقد جللها زحف الرمال أو كاد، ولم يبق من صور
التردد على خيمة الخليلة ومسامرتها، وارتشاف كؤوس المودة بين أحضانها إلا أشباح
ذلك بالذاكرة عالقة.
إن
الإحساس بهذه القوى المستفزة وهذا الفعل القوي المهدم لكل ما حوله هو الحامل
للشاعر على رصد بنات مشاعره على هذا النحو. فهو قوي الإدراك لعاتيات هذا الزمان
الغلاب ؛ تؤرقه حرقة السؤال عن مصيره أمام هذا الطوفان العارم الجارف، وعن ضعف
حيلته في صد جيوشه البواسل. وكان كلما أعوزه الجواب فاضت دموعه على النحر حتى يبل
محمله بعد لحيته. إنها ليست دموعا تنحر على عتبات الذكرى وبواقي الطلل كما ظن
النقاد، وإنما هي دموع تسفح تعبيرا عن العجز أمام مبيد هذه الذكرى ومقوض آيات
الطلل. وإنما الذكرى والطلل مظهر من مظاهر الإثارة وتعميق الإيلام وتشديد الوخز
برماح الزمان.
إن
مهابة الفناء، ونوازل رحم الغيب المباغتة المبهتة هي التي دعت الشاعر إلى مساءلة
الطلل ابتغاء تقديم فروض التعزية لروح أضناها الشعور بالضعف ففرت من قدر إلى قدر ؛
فرت من الموت وحرقة الإحساس به إلى التمسح بالميت. فرت من الزمان القاتل الذي يكر
خلف دبرها إلى الشجر فعبدته وإلى الصنم فاحتمت به، وإلى الوثن فعلقت على هامته
عجزها وخور نفسها، وإلى الطلل فبثته كربها، وإلى الذكرى فأسبلت دمعها على آثارها.
إن الطلل والمرأة رمزان دالان بعمق وجدية على علاقة الإنسان العربي بعالمه. إنهما
رؤية قوية واضطرارية لهذا العالم، وليسا ممارسة اختيارية يزجي بها الشاعر أوقات
فراغه، التقليد فيها أكثر من الإحساس بها.
ومن
ثم فالحكم على الطلل والمرأة بما حكم به عليهما في معظم هذه الاختيارات النقدية
وفي معظم الآثار الأدبية العربية القديمة، وكثير من الاختيارات النقدية الحديثة
والمعاصرة، فيه تزييف واضح لصدق مشاعر الإنسان العربي، وفيه حكم جائر في حق العقل
العربي، لأن في كل تلك المحاولات إقرارا بينا بأن ذلك كله لا يعدو أن يكون عاطفة
ذاتية تعكس تجربة خاصة بالشاعر. والواقع العربي بكل تجلياته وعبر كل محطاته ما كان
يتوجه هذه الوجهة الشخصية وإنما كان الهاجس الجماعي والروح القبلية([18])
العامة موجهين ومحددين لكل أنماط التصور ولكل أضرب السلوك وأشكال القناعة والفكر.
إن المصلحة القبلية العامة فوق كل اعتبار شخصي. فكل مساس بالفرد هو مساس بالجماعة،
وما الفرد إلا جماعة وما الجماعة إلا مجموعة أفراد ينصرها وتنصره دون اكتراث بمدى
شرعية سلوكها أو عدم شرعيته، كما قال دريد بن الصمة
وهَلْ
أنا إِلاَّ من غَزِيَّةَ إن غَوَتْ غَوَيْتُ
وإن تَرْشد غَزِيَّةُ أَرشُد([19])
وعليه
فإن أي تخصيص لعلاقة الشاعر بالطلل والمرأة يعد زيفا وباطلا تعوزه أدلة الدعم
والتثبيت. وما قيل عن المرأة والطلل يمكن سحبه، من حيث المبدأ على الفرس (أداة
فاعلة وضرورية في الحروب) والناقة(*) (وسيلة الترحال الأقوى والأفضل) فهما رمزان
دالان على عمق الإحساس بصعوبة المحيط العام، وبقوة الامتعاض من رحم الغيب وتحدياته
المتوالية.
فالفرس
وسيلة لرد هجمات العدى القائمة وللانفلات مما تحمله سيوفهم ورماحهم من أسباب الموت
المحقق. فهو إذن رمز القوة والتحدي وإنماء الشعور بقرار الضمير. وكذلك الناقة فهي
وسيلة مثلى لرد هجمات المفاوز المقفرة التي تأكل فيها الشمس ظلها، وتبلع الأرض
فيها ماءها، ويتعقب وحشها الكاسر عابرها. فالفرس والناقة تحسيس بالقوة وتوفير لأسباب
الاطمئنان. وانطلاقا من هذه العلاقة العشقية التعبدية الحميمة القائمة بين الناقة
والفرس وبين الإنسان العربي نجد التفسير الحقيقي لتلك النعوت المثالية التي كان
يخلعها عليهما الشاعر العربي قديما حتى يناظرا نموذجه المثالي، وحتى يستحيلا إلى
مخلوقات مثالية مجردة. فكأنهما طقس عبادة يظل الشاعر القديم قائما بمحرابه لإرضاء
معتقده الأسمى. إن قوة الاعتقاد في الفرس والناقة، باعتبارهما المخلص من براثن
الموت المتعقب لإنسان الجزيرة، خلعت عليهما مسحة من القدسية والتبجيل وسمت بهما من
الطبيعة الحيوانية إلى عوالم روحية. فالناقة لا يزيدها طول السرى وصعوبة المسالك
في مجاهل الصحراء، وبين تلال الرمل المتداعية إلا قوة واقتدارا. والفرس لا تزيده
المعارك المتوالية وجيوش النقع المتعالي وصلصلة السيوف ورنين القوس إلا هيجانا
وجسارة.
فالشاعر
العربي إنما يريد خلال الاحتفاء المفرط بهذين الرمزين توفير أسباب النجاة لنفسه
بفض مرارة الإحساس بواقعه الضنك. فكلما اشتدت عليه قبضة هذا الإحساس كلما ازداد
تعلقه بهذين الرمزين فأسرف في وصفهما إلى حد التقديس.
وفي
سياق هذه العواطف الجامحة المؤسسة على قوة الشعور بالضعف في كل آن من أوان حياة
الإنسان العربي عموما، يمكن الحديث عن المدح والهجاء باعتبارهما طرفي ثنائية ضدية
يتقابلان لتحقيق التكامل. فالمدح في أبسط تعريف له تفضيل وتمييز مخصوصان للممدوح.
والممدوح كما يشهد واقع القصيدة المدحية العربية هو دائما في موقع القوة، وإنما
يلجأ إليه المادح الشاعر ابتغاء النهل من معين هذه القوة سواء كانت قوة سياسية أو
قوة مادية. نظرا لإحساسه القوي بالافتقار إلى إحدى هاتين القوتين أو إليهما جميعا.
فتراه يصنع الأسباب القمينة باستمالة قلب الممدوح واستدرار عطفه، للاحتماء بفيئه
من هجير واقعه المتأبي. فالعلاقة إذن قائمة ومؤسسة على الإحساس بالضعف والخور وقلة
الحيلة وفقدان الوسيلة والرغبة القوية في التقليص من جسامة هذا الإحساس المرير.
وإذا
أدرك الشاعر المادح أن مساعيه كللت بالفشل، وأن طلب القوة – أية قوة – غير ممكن
بحال من الأحوال، أو كان هذا الشاعر عرضة لمجموعة من الاستفزازات من أي كان، رأيته
يتطرف فيسدد سهام الهجاء لتوفير الحماية لتلك النفس المهزومة الكليلة من خيبة
المسعى أو من ظلم ذوي القربى أو من تطاول العدى. إن الهجاء ضرب من الدفاع لإنماء
القوة المعنوية بالكيان ؛ تلك القوة التي تحفظ ماء الوجه وتوفر شروط وأسباب ضمان
التوازي النفسي والاجتماعي وإلا لقي الشاعر حتفه، وهذا هو الشبح المخيف الذي يقصم
مجرد الإحساس به وتصوره ظهر هذا الشاعر ويقض مضجعه. وقس على هذا ما بقي من
اهتمامات الشاعر العربي القديم.
إن
قراءة الشعر العربي القديم على ضوء هذه القاعدة : "القوة رمز البقاء"
يفتح أمامنا أبوابا عدة لفهمه وتبطن مكامنه وتسطير خطوطه البيانية وتحديد وجهات
مسيره. ويمنحنا حظوظا وافرة للتخلص من كثير من القراءات المبتسرة المتهافتة التي
جزأت وحدة الشعر العربي، وبددت ملامح العقل العربي، وانتهت إلينا به عبارة عن مزق
مبددة لا رابط بينها. وكأن الإنسان العربي كان عديم الإحساس بمجريات الأحداث، أو
كان عاجزا عن الإسهام في بلورة مجموعة من التفسيرات لها، وتوفير مجموعة من آليات
التأويل المترتب عن وعي تركيبي عميق ببواطن الأشياء ؛ وإن يكن وعيا أوليا تحكمه
ملابسات معينة.
في
ضوء هذه القناعة يمكننا تقديم قراءة سريعة لمتواليات القصيدة العربية القديمة.
فمساءلة الطلل وذرف الدموع عليه وتذكر المرأة ومعاناة لواعج العشق كلها مظاهر
الإحساس بالهزيمة أمام هول الزمان الجائر والفناء العارم. يحتمي الشاعر بالطلل
لأنه قطعة من حياته اجتزأها من الزمان على حين غرة فغدت له دون منازع تملكها بعد
أن خبرها، ولم تعد له شبحا يجثم على أنفاسه. والمرأة ظل ظليل يفل به الإنسان
العربي يومئذ صفوف قيض البوار المتربص ؛ تمنحه الحنان والولدان اللذين بهما يعزز
وجوده.
إن
الطلل والمرأة ملاذ يمنح الشاعر الإنسان، حين يحج إليه ويتمسح به، قوة الإحساس
بمتعة ما انتزعته منه يد الزمان من أطوار حياتها السابقة وأصبح لها ملكا خاصا لا
تنتهبه منها يد هذا الزمان ثانية، ولا تصدمها فيها بغير ما تصبو إليه. إن الطلل
والمرأة تحررا من ربقة الزمان وأصبح الاختلاء بهما ضربا من التخفيف من حدة
المعاناة. إنهما إحساس بمتعة الحياة الخالية التي أصبحت تحكمها دورة الزمن
العاطفي، وليست تحكمها دورة الزمان الطبيعي ؛ زمن اليوم والليلة والسنة والشهر.
الطلل والمرأة توفير لأسباب الطمأنينة أو هما على الأقل مدعاة للتخفيف من بطش
الزمان الطبيعي ومباغتاته التي تأخذ الإنسان يومئذ على حين غرة من أمره. حتى إذا
استفرغ الشاعر همه على عتبات الطلل والذكرى، وأحس بعد سفك الدمع على أثارهما
المادية والنفسية، ببعض الراحة الوجدانية لما استمده منهما من شعور بامتلاك بعض من
أطوار حياته، شَرَقَ من جديد شبح غول آخر ينضاف إلى صف الزمان ؛ إنه غول الصحراء
بمتاهاتها وشراسة وحشها. فالرحلة في هذه المفاوز المقفرة مجازفة غريبة ومغامرة
فريدة. فما الحيلة وما الوسيلة ؟ إنهما الناقة الرمز القدسي المثالي الذي ينفث
شحنات القوة في كيان بدا مشلولا لا يريم، وتكبر في صدره الأمل، فيتململ.
فإذا
كانت الرحلة استبدال مقام بمقام وإحساس بإحساس، وفرارا من محنة نحو رخاء حينما
يضيق صدر الحال، وتتداعى آفاقه فتخنق الأنفاس. وإذا كانت الرحلة أيضا فعلا يؤسس
على القوة ؛ قوة الإرادة للتملص من براثن العجز ؛ وقوة الوسيلة للبحث عن البدائل.
فإن تحقيقها بدون الناقة يظل من الأحلام. إن الناقة أحد أبرز رموز القوة في وعي
المجتمع العربي القديم كما مر بنا منذ قليل. فهي تدلل صعاب الصحراء المطبقة على
النفس وتشعر بالتحرر من قيود العجز. وبعد هزم غول الصحراء والانتصار على مسببات
الهلع والخروج من رحمها بسلام، اعتمادا على الناقة رمز القوة والتحدي، بعد ذلك
تتوالى رحلة الشاعر في طلب أسباب النصر والغلبة التي لا يعتقد وجودها في غير
الممدوح – والممدوح في الغالب أحد رموز السلطة في المجتمع العربي – الذي بحكم
مركزه يملك هذا النصر وهذه الغلبة. فمن منزلة الممدوح وعطاءاته تستمد ذات الشاعر
الإحساس بالقوة على مواجهة غائلة الطوى، وهجمات الآخر الذي قد يكون هو الممدوح
نفسه. وإذا أعوز الشاعر طلب ذلك وتحصيله وَعَدِمَ ذلك الإمداد الروحي، لعدم رضا
الممدوح بقربانها، طلبت القوة من داخلها المكلوم المهزوم، وصوبت سهام الانتقام
تجاه الآخر حفظا لماء الوجه، وإلا تهاوت في حمأة الهزيمة التي تأباها وتمتعض منها
وترحل الدهر مغبة الوقوع في حبالها.
ثم
إن استمرار واقع دق طبول النزال اليومي، وتوالي غزوات الآخر الخاطفة يولد في النفس
العجز ويسيمها خسفا ونكاية إن هي لم تتدرع بالقوة. وأنجع وسيلة في هذه الحال هي
الفرس ؛ فهو الدرع الواقية من العار والمذلة، وجر ذيول الهزيمة المرة. بالفرس تكبر
في النفس الأنفة والعزة، فتكسر متاريس الخوف وتتحدى بواعث الموت والبوار المتربص
بها في كل آن وحين.
وتأسيسا
على هذا الغرض يكون الطلل والمرأة والناقة والفرس والمدح والهجاء والرثاء مصادر
استمداد القوة ومنح شحنات الاعتزاز الضرورية لاستساغة طعم تلك الحياة، ودرء كل
أشكال التحدي والاستفزاز، وإلا تعطلت دواليب الحياة بداخل الإنسان العربي، وتردى
في مهب العواصف والأنواء، وبلغه الفناء ووقع تحت أقدام جحافل الهلاك وأشباح زمان
يتمطى بكلكله. زمان كالليل المدرك وإن وسع المنتأى. إن الإنسان العربي كان يصارع
قدرا بقدر ؛ يصارع قدر الموت الدنيء المباغت بقدر القوة المستمد من هذه العناصر
جميعا. وفي ظل هذه الحرب المعلنة، وفي ظل الواقع التاريخي والنفسي، وجبت قراءة
الغرض الشعري في الموروث الإبداعي العربي القديم، وإلا سمجنا عاطفة ذلك الإنسان
وهشمنا منطق وعيه القائم يومئذ، وتسببنا في انحراف قاطرة الفهم السليم لذلك
الواقع. لأن معالجة الغرض الشعري في إطار المواقف الشخصية الإمتاعية للشاعر، يجعل
من الشعر ضربا من اللهو والمتعة اللحظية، ويجرده من كل مضمون إنساني نبيل، ومن كل
فكرة عن محاولات فهم ذلك الإنسان لمحيطه، والتعامل مع هذا المحيط بوسائله الخاصة،
وتبعا لما بلوره من قدرة على التأويل الكفيل بخلق الإحساس بتملك هذا المحيط. وإلا
استعجل هذا الإنسان قدره حينما لا يوفر لذاته مثل هذه الحماية الضرورية.
إن
قراءة الغرض الشعري خارج دائرة الإحساس الفعلي بمتطلبات البيئة العامة، والوضع
التاريخي والنفسي القائم يومئذ ساهم ويساهم في التقليص من إمكانات فهم المنظومة
التاريخية العربية في شموليتها على نحو ما ساهم ويساهم في تعطيل التشكيل النهائي
لملامح صورة الإنسان العربي بشكل عام.
وينضاف
إلى كل هذا الابتسار وهذا التسميج للفكرة الشعرية في التراث الشعري العربي القديم،
النظر إلى مكونات القصيدة في معظم الأحيان من زاوية المديح. إذ لم يتم الاهتمام
بها إلا انطلاقا من مدى علاقتها بهذا الغرض. وهو الأمر الذي غيبت معه باقي
اهتمامات الشاعر الأخرى التي لا تنحو هذا المنحى أو تم التعامل معها على نحو من
الاستخفاف وقلة المبالاة وعدم الاكتراث بالمسببات.
والذي
حمل على مثل هذا السلوك في التقويم النقدي هو واقع الحال في المجتمع العربي
القديم. فقد كانت المرجعية التكوينية لكثير من النقاد، والحاجة المادية والأمنية،
ما ينجم عنهما من اعتقادات، وما ينسج حولهما من تبريرات، سببا في تكريس مثل هذا
التوجه وتثبيت مثل هذه القناعة. إلى حد أن القصيدة العربية القديمة أسس بناؤها على
هذا المبدأ. واعتبرت باقي أفكار القصيدة واهتماماتها إشارات عابرة تهيئ النفوس إلى
الغرض الرئيس الذي هو المديح. وطولب الشاعر في هذا السياق بالإتيان بما تهواه نفس
الممدوح ويَسْتَعْذِبُهُ ذوقه وينشرح له قلبه. وطولب بالمقابل بالابتعاد عما يخدش
إحساس هذا الممدوح ويستنفر عصافير رأسه. بل طولب الشاعر بتعطيل كثير من مقومات
الإبداع الشعري خدمة لذوق الممدوح الكليل المواهب والضعيف القدرة على تمثل اللغة
الشعرية الإيحائية.
وحفاظا
على سلامة كل مكون من مكونات القصيدة، وانطلاقا من ضرورة احترام عمق الفكرة
الشعرية في القصيد العربي القديم، سنتناول الغرض الشعري عند الشريف الرضي، ولن
نثبت من ذلك إلا ما تملك القوة الإجرائية وتمتع باستقلاليته عن غيره ؛ استقلالية
كفيلة برسم حدوده وتوضيح معالمه على نحو يدرأ عنه أي شكل من أشكال التماهي
والتداخل مع باقي الأغراض الأخرى. كما سنعكف على استخراج ومعالجة ما يسمح به إبداع
الشريف الرضي من أغراض فحسب دون السماح بالوقوع في حبالة الأحكام الجاهزة سلفا
نظرا لما في الصدور عنها وركوبها من تحصيل حاصل، وتغييب الشاهد لصالح الغائب. هذا
مع الإشارة إلى أن وحدة الفكرة الشعرية الصادرة عن كيان موحد لن تسمح إلا بوحدة
الغرض وإنما سنعمد إلى إقامة بعض الحدود بين بعض مكونات هذه الفكرة الشعرية
الموحدة تسهيلا لسبل الاستقراء والتحليل ليس إلا. فالغرض الشعري عندنا واحد لا
يتجزأ.
وبعد
جولة استقرائية إحصائية في ربوع ديوان الشريف الرضي الوافر المقال والثري المادة،
انتهى بنا المسير التحليلي إلى تسطير غرض رئيس استوعب على نحو من الشمولية مجموع
اهتمامات الشريف الرضي. وهذا الغرض هو الفخر وهو بذلك لا يحيد على منحى الشعر
العربي القديم الذي ناء الفخر بكلكله على معظم اهتماماته وطموحاته وآماله نظرا لما
فصلنا القول عنه سابقا، وسنزيده تفصيلا لاحقا، على أن الإحساس بالحرمان ولد تحت
تأثيرات مجموعة من العوالم الذاتية والموضوعية شعورا نقيضا لاستساغة طعم هذا
الوجود المتأبي، وهذا الواقع المشاكس المتمرد الذي طوح بكل إمكانات تحقيق قرار
الضمير. إن الفخر تضميد لجراحات الكيان، وضخ لدم جديد في شرايين واقع شبه متجمد،
وفتح لأبواب الأمل في وجه الكبوات المتوالية.
وسيطرة
هذا الغرض الشعري عند الشريف الرضي مع تبدل في أحوال السياسة والاجتماع والعقيدة
مقارنة بقديم الواقع الشعري العربي، مردها إلى وحدة الإحساس وتشابه المساعي
والأهداف. فالشريف الرضي هو أيضا يحس بالحرمان وبظلم ذوي القربى وبعدم الإنصاف
التاريخي له ولقبيله من الشيعة. بل إن العقيدة الشيعية في جوهرها ما أسست إلا على
هذا الضرب من الإحساس بالغبن، من يوم قيام مذهبهم على مسرح الأحداث في المجتمع
العربي الإسلامي. فهم، بحسب ما بلوروا من فلسفة مذهبية، أهل الحق إلى النبي يعودون
وبتطبيق الوصية يطالبون. ولما جرت صروف الدهر بعكس هذا المسعى النبيل عند كل أفراد
الشيعة. تنامى بكيان كل شيعي هذا الشعور القوي بالظلم واستلاب الحقوق المشروعة،
وظلوا يطالبون بهذا الحق المهضوم مرة في الخفاء وأخرى في العلن. وفي سياق هذه
المطالبة كانوا يفخرون على نحو من التبجح والتعاظم بشرف نسبهم وبتفوقهم على كل
الناس فكرا وسلوكا وعقيدة. ومن ها هنا نجد تفسيرا لهيمنة الفخر في ديوان الشريف
الرضي وانسلال كل الاهتمامات الأخرى من رحمه.
ونشير
في هذا السياق الاستقرائي الإحصائي للغرض الشعري في ديوان الشريف الرضي إلى أننا
أوصلنا، بوازع من الإيمان القوي والضروري بوحدة الغرض الشعري، مجموعة من الفروع
بأصولها درءا للابتسار والتمييع وإقامة الحدود ادعاء، وما ينجم عن كل هذا من تحطيم
وتهشيم لأوصال هذه الوحدة. فقد ألحقنا بالفخر المدح والرثاء والهجاء والنسيب لأنها
تجليات صريحة للفخر ليس إلا. وأي إقرار باستقلالها عن هذا الأصل إنما هو دليل على
الابتعاد الكلي عن ملامسة جوهر الوحدة المعنوية في هذا الشعر. فكل هذه الفروع لا
تعدو أن تكون مكونات لغرض واحد. تتوحد من حيث هي جميعا ثناء وتبجيل وتعظيم إما
للذات وإما للآخر، فالمدح تفضيل وتعظيم يخلع على المقصود برود التفرد والعزة
والشمم وطول الباع وسمو المنزلة. والرثاء ثناء على الميت بحميد خصاله وجليل سلوكه.
والهجاء تعريض بالمهجو وفخر عليه وقدح فيه ابتغاء إيفال نجمه وإعلاء نجم الذات
بالمقابل وإسماع صوتها وإعلان فضلها وبعدها عن الخسة والنذالة والسقوط في مهاوي
الذلة واللؤم. والنسيب مدح للمرأة بجميل مفاتنها وحميد سلوكها. وفي كل هذا تباه
بتجريب الحياة وخبر مسالكها ووعي بأنماط السلوك في خوض عبابها لتفادي المتبطات
وللابتعاد عن مواطن سفك الجهود وأسباب تقليص فرص الطمأنينة وقرارة الضمير.
إن
التفاضل والتعاظم والغلو في نعت الذات أو الآخر بحميد السلوك وبعمق النظر، وسداد
الرأي، صفات جامعة بين هذه الفروع جميعا، قال ابن منظور : "والفخر... التمدح
بالخصال... والتفاخر التعاظم"؟([20]).
وقال الزمخشري : "فخرته على صاحبه فخرا : فضلته".([21])
وإنما
عمدنا إلى إحصاء الغرض الشعري في ديوان الشريف الرضي، وحددنا عدد أبياته المفردة
وعدد نتفه وعدد مقطوعاته وعدد قصائده والحاصل الإجمالي والنسب المئوية، ابتغاء
تقديم قراءة دقيقة عالمة كاشفة حقيقة بتقديم صورة واضحة الآيات عن إنتاج الشريف
الرضي ؛ قراءة تدرأ عن الغرض الرئيس، من خلال كل تجلياته، كل أشكال التهميش وكل
تغليب لجانب على حساب الجانب الآخر، وتعين الدارس بالموازاة مع ذلك على تتبع
اهتمامات الشريف النفسية والاجتماعية والثقافية على نحو أكثر واقعية وعلمية. وذلك
نظرا لما للإحصاء من أهمية وجدوى في مجال الدراسات المتخصصة. وفيما يلي جدول
إحصائي تفصيلي لتجليات الغرض الشعري الوحيد والرئيس في ديوان الشريف الرضي :
الغرض
الشعري واحد يتفرع
الغرض
الرئيس
ß
الفخر
(16156 بيت شعري)
ß
تجلياته
ß
الغرض الشعري
|
عدد
الأبيات المفردة
|
عدد
النتف
|
عدد المقطوعات
|
عدد
القصائد
|
العدد الإجمالي للأبيات
|
النسبة
المئوية
|
المدح
|
3
|
45
|
126
|
259
|
9511
|
58.86 %
|
الرثاء
|
0
|
3
|
19
|
73
|
3349
|
20.72 %
|
النسيب
|
1
|
24
|
97
|
101
|
2310
|
14.29 %
|
الهجاء
|
0
|
17
|
46
|
34
|
986
|
6.10 %
|
المجموع العام
|
4
|
89
|
288
|
467
|
16156
|
99.97 %
|
إن
نظرة سريعة في هذا الجدول بما اشتمل عليه من إحصاء وتحديد لنسب تواتر الغرض الشعري
في ديوان الشريف الرضي لتعكس على نحو من القوة استمرارية الأشكال التعبيرية
(الجاهلية)(*) التي هي في الواقع استمرارية لوحدة الإحساس
بالمحيط وتجلياته. وما أحسب الناظر في هذا الجدول إلا ملحقا صاحبه بشعراء الفترة
(الجاهلية) نظرا لما فيه من اضطراد وتشابه كبيرين ومرد هذا التشابه، كما سبقت
الإشارة، إلى وحدة الإحساس وتشابه الرؤية وتماثل المسعى. فالشريف الرضي يحمل، كما
كان الشاعر (الجاهلي)، آمالا عريضة، وتضطرم بوجدانه نيران الرغبة في امتلاك ناصية
واقعه والثأر لنفسه وذويه من حيف الأنام وبطش يد الزمان، ولكنه يعدم الوسائل
القمينة بتحقيق الرغبة. فلا يعلو صوته العليل إلا من خلال شعره، ولا يينع رأس
آماله إلا في جنان إبداعه. تتبط عاتيات الزمان المعاند عزائمه وتقعد به عن تحقيق
شأوه. فاستمع إلى قلبه المكلوم وقد شرق بالهموم :
أمانيُ
نفسٍ ما تُنـاخُ ركابهـا وغيـبـةُ حـظ لا يرجَّـى
إيَابُهـا
ووفدُ
هموم ما أقمـتُ ببلـدة، وهن معي، إلا وضاقـت رِحابُهـا
وآمالُ
دهرٍ إن حسبتُ نجاحَها، تَرَاجَـعَ منقوضـا علـيَّ حسابُهـا
أهُمُّ
وتثني بالمقاديـر هِمَّتـي، ولا ينتهـي دأبُ الليـالـي
ودَابُهـا
وعندي
إلى العَلْيَاءِ طرق كثيرة، لو
انْجَابَ من هَذِي الخطوب ضَبابها
عناد
من الأيام عكس مطالبـي إذا كان يوطيني النجـاح اقترابُهـا([23])
وحظي
منها صابُها دون شهدها، فلو كان
عندي شَهْدُهَـا ثُمَّ صابُهـا([24])
تكبل
الخطوب طموح هذا الشاعر المسكون بحب المعالي، وتقعد به خلف غاياته وآماله كليلا
محسوراً، إلا شقوق الكلمة يتنسم من خلالها بعض العزاء وبعض المواساة. يحمله على
ركوب الكلمة قلة حيلته وضعف وسيلته، وإلا فالشعر لا يليق به. يقول مصورا حاله وهو
يتأبط الكلمة الشعرية :
وما
الشعرُ فَخْـري، ولكِنَّـهُ أطُـولُ
بِه هِـمَّـةَ الفَاخِـرِ
وإنِّي،
وإنْ كنـتُ من أهْلِـهِ لَتُنْكِرُنِـي
حِرْفَـةُ الشَّاعِـرِ
ويقول
أيضا في ذات السياق يسائل نفسه في استنكار واستبعاد :
مالك
تَرْضى أن يُقَالَ شاعـرٌ؟! بُعداً
لها من عَـدَدِ الفَضَائـلِ
إن
عمق الإحساس بالغبن والحيف والحرمان وما يرافق كل هذا وينجم عنه من عظيم الرغبات
في نيل المفقود والثأر للنفس، هو السبب الرئيس في تنامي نغمة الفخر بديوان الشريف
الرضي على هذا النحو من القوة. فهو لا يفخر ولا يفاخر إلا سعيا إلى تضميد جراحات
الفؤاد المعذب، وإلا سعيا إلى تحقيق نوع من التوازن النفسي والاجتماعي وإلا تخطفته
عاتيات الحسرة والشعور بالخيبة فيأفل نجمه وتخبو جذوته، وهذا ما لا يسعى إليه صاحب
نفس تتوق إلى المعالي، ويكبر فيها الحلم بتحقيق هذه المعالي في الآتي من الزمان.
ودرءا للوقوع بين براثن الانهزامية المرة،
وضمانا للاستمرارية في الوجود فَخَرَ وفاخر الشريف الرضي على نحو ما فخر وفاخر
قبله الشاعر (الجاهلي). وهذا سر التشابه القوي بين إنتاج الشريف الشعري وبين إنتاج
(الجاهلية) من حيث المضامين. وعندي أن الشريف الرضي فوق هذا وذاك ينتمي بقوة إلى
نفس الزمن الأدبي الذي انتمى إليه الشعر (الجاهلي) وإن كان يحلو للبعض من الدارسين
تقزيم هذا العصر إلى مجموعة من العصور الأدبية. فالعصر الأدبي الأول ظل قائما إلى
ما بعد الشريف الرضي بكثير. وقيامه واستمراريته هما الأصل، إلى جانب وحدة الشعور
بطبيعة الحال، في هيمنة الفخر بديوان الرضي على نحو ما أثبت لنا الإحصاء الدقيق
والاستقراء الكلي المنفلت من قبضة التقزيم والاجتزاء والعجز عن ربط الفروع بأصلها
الذي منه انبثقت، وإليه تؤوب.
لم
يفخر الشريف الرضي وقبله الشاعر (الجاهلي)، إلا بدافع الحاجة الملحة إلى هذا الفخر
؛ فخرا رغبة في تمليك النفس شحنة من القوة والثقة حتى يتأتى لها المثابرة والسعي
في اتجاه المنشود، وإلا تقاعست بها الحظوظ، ولقيت حتفها في الحياة قبل أن تأتي
عليها أسباب الفناء الطبيعي. لأن الفخر كما أوضحنا من قبل إنَّمَا هُوَ تحسيس
بمتعة تملك ما لم يتملك في عين الوجود فعليا، ولا توافرت للذات أسباب تحقيقه على
مستوى المحسوس المادي، أو هو تعظيم للممتلك رغبة في تقليص الإحساس بالحرمان مما هو
أجل من هذا الممتلك أو هو تتميم له وامتداد طبيعي له.
وسنعرض
لفخريات الشريف الرضي من خلال مختلف تجلياتها ابتغاء تسطير ملامح اهتماماته القصوى
في الحياة، وابتغاء إدراك مدى القدرة التعويضية التي ينفثها الفخر في الكيان
المفتخر، حتى يتأتى لنا في نهاية المسير تقديم التعليل الموضوعي لسر هيمنة هذا
الشعور العارم على مجموع إنتاجه الشعري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق