إن
نشوء الشريف الرضي في بيت يتخذ كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام منهاجا، ويعتمد
خطب الإمام رضي الله عنه دستورا في الأخلاق والسياسة والاجتماع وتربية الأذواق
وصقل المواهب. إن كل هذا، إلى جانب ثقافته المتشعبة منحه القدرة على الخوض في كل
أجناس الكتابة والتأليف المعروفة في زمنه، وأكسبه الإحساس العميق والمتفرد بسحر
الكلمة، وأهله لفهم المقاصد وتسديد المفاسد، وأورثه الذوق الرفيع لتمييز العيي من
البديع.
ففي
غمرة الكتابة والتأليف سجل الشريف الرضي مجموعة من الآراء النقدية المتقدمة التي
جاءت موزعة بين متون مؤلفاته وأبيات قصائده، والتي تنم بوضوح عن قناعاته الدينية
ورؤاه البلاغية، وتسمح بتحديد منهجه في النقد والترشيد. وللوقوف على هذه الآراء
النقدية وخبر ماهيتها وتسطير أسلوبه في التقويم الدلالي والتعبيري والمنهجي، سننظر
فيها من زاويتين؛ إحداهما بلاغية والثانية شرعية. والذي حملنا على هذا التقسيم هو
الرغبة في تبسيط مساطر التحليل، وإلا فالاشتغال على اللغة يظل واحداً وإن تعددت
تجليات هذه اللغة.
1-
الناقد البلاغي :
إذا
كان الشريف الرضي لم يخلف كتابا مستقلا في البلاغة والنقد، فإنه قد خَلَّلَ كثيرا
من مؤلفاته بآراء تسمح لنا بعده ناقدا بلاغيا دون ادعاء؛ ناقدا مرهف الحس، رفيع
الذوق، أحس الكلمة وعاش سحرها، وخبر أدوارها في تشكيل الشخصية الفنية، فثبت لديه
أن هذه الكلمة متى أسندتها الفطرة السليمة والطبع العفوي، جاءت مشرقة صادقة، ومتى
عدمت هذا أضحت حشوا لا يلتفت إليه. وسنبسط القول في هذه الآراء على النحو الآتي :
1-1-
المصطلح البلاغي بين
التعميم والتداخل
يتبين
الدارس لـ "تلخيص البيان في مجازات القرآن" و"المجازات
النبوية" أن الشريف الرضي لم يلتزم الفروق الدقيقة القائمة بين المصطلحات
البلاغية البيانية. فقد كان يعد جميع الوجوه البيانية مجازا، بما فيها التشبيه
المحذوف الأداة، كما كان لا يميز بين أنواع التشبيه ولا بين أنواع الاستعارة ولا
بين هذه وبين التشبيه. وعن هذا التداخل والتعميم يقول طه محمد الزيني : "فإن
الشريف رحمه الله لم يتقيد بما اصطلح عليه علماء البلاغة من أسماء الاستعارة
والتشبيه والكناية والمجاز وغيرها، فهو يجعل التشبيه مجازا مرة، واستعارة مرة
أخرى، ولا يبين الاستعارة التصريحية من المكنية، والأصلية من التبعية، ولا يفرق
بين التشبيه البليغ، والتشبيه المرسل، ولا بين المجاز العقلي والمرسل"([1]).
فالقاعدة
البلاغية التي كانت تحكم الشريف في هذا السياق هي التقابل القائم بين الحقيقة
والمجاز، فكل توظيف سجل معه اللفظ شذوذا دلاليا تبعا لدواعي المقام، واستجابة
لشروط التجاور، عده مجازا. وهو ما يدلل على مدى الاكتناف الذي كان ما يزال يلف
الدرس البلاغي يومئذ، ليس عند الشريف الرضي فحسب، وإنما عند جميع المشتغلين بالدرس
البلاغي. وذلك لأن عهد التبويب والتقييد، وتمييز الأصول عن الفروع، والجواهر عن
الأعراض، ... لم يبدأ بعد.
ومن
نماذج هذا التعميم وهذا التداخل الذي طبع المصطلح البلاغي عند الشريف الرضي قوله
في التعليق على هذا الحديث : "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم،
ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم"([2]).
قال الرضي تعليقا على بلاغة هذا الحديث : "وهم يد على من سواهم استعارة
ومجاز"([3]).
بينما المكون البياني الذي يشتمل عليه هذا الحديث هو التشبيه البليغ (حذفت أداته
ووجهه) وليس الاستعارة أو المجاز كما قال الشريف.
ومن
نماذج هذا أيضا قوله في تحليل هذا الحديث : "وغطفان أكمة خشناء تنفي الناس
عنها"([4]).
قال : "وهذا القول مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام شبه غطفان لاشتداد
شوكتها، واتقاد جمرتها، بالأكمة الشاقة التي تزل الأقدام عنها، وتنقطع أطماع
الراقين دونها. فجعل امتناع الناس من التعرض لها بمنزلة منعها لهم من التطرق
إليها"([5]).
فهو يطلق لفظ المجاز على التشبيه البليغ، وحين التحليل يتحدث عن علاقة المشابهة
القائمة بين طرفي هذا التشبيه.
وكان
هذا ديدنه أيضا في إبراز ما اشتملت عليه بعض الآيات القرآنية من وجوه بيانية. ففي
تحليله لقوله تعالى : ﴿الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء﴾([6]).
قال : "وهذه استعارة لأنه تعالى شبه الأرض في الامتهاد بالفراش، والسماء في
الارتفاع بالبناء"([7]).
فالآية
مشتملة على تشبيه بليغ وليس على استعارة كما ذهب إلى ذلك الرضي. فهو لا يعد تشبيها
إلا ما ذكرت فيه الأداة التي اعتبرها شرطا وحيدا لإخراج التشبيه من حومة المجاز
كما هو واضح من قوله الآتي : "... ذكرنا فيما تقدم أن دخول كاف التشبيه في
الكلام يخرجه من باب المجاز"([8]).
وعلة
هذا كما قلنا من ذي قبل أن الشريف عاش قبل عصر التقعيد البلاغي الذي حدد فيه
المصطلح وميزت فيه الحقول وضبطت فيه آلة الاشتغال وأساليب التوظيف.
أما
الدواعي التعبيرية التي تحمل المبدع على اعتماد المجاز أساسا في التشكيل الفني،
حسب الشريف، فتكمن إما في ضيق في العبارة، أو رغبة في تطويع ما تأبى من الألفاظ.
يقول موضحاً مضمون هذا الحكم : "والواحد منا في الأكثر إنما يستعير إعلاق
الكلام، ويعدل عن الحقائق إلى المجازات، لأن طرق القول ربما ضاق بعضها عليه فخالف
إلى السعة، وأعنة الكلام ربما استعصى بعضها على فكره فعدل إلى المطاوعة"([9]).
فمفهوم
المجاز عنده إذن، قائم على التخييل الذي يساق إليه المبدع تحت تأثير سياقات
جمالية. وقد اعتمده (الرضي) مقياسا يميز به الدلالات الأول من الدلالات الثواني،
ويفصل بمقتضاه بين النصوص الإبداعية والنصوص غير الإبداعية. ثم هو عنده أداة
للتطويع الذي هو جوهر عملية النقل الدلالي التي يقوم عليها الفعل المجازي عموما.
1-2-
قضية اللفظ والمعنى :
تعد
قضية اللفظ والمعنى من أهم وأبرز القضايا البلاغية التي شغلت الناقد العربي
القديم. فقد هدر فيها حبرا كثيرا، وضيع معها وقتا ليس يسيرا. وأصبحت معيارا في
التمييز بين المشتغلين بالحقل الإبداعي والإعجازي والنقدي عموما. كما أصبحت مثار
خلاف بين الكثير من الأقلام والمذاهب.
وما
كان للشريف الرضي أن يدع هذا السجال النقدي يمر دون أن يعبر عن رأيه ويسجل موقفه
بوضوح في قضية كهذه، خصوصا وأنه خاض في كل شعب الثقافة العربية الإسلامية من منظور
غير مسبوق، وخاض في كل القضايا الخلافية التي نشبت في زمنه على منوال غير مألوف. دون
أن يحدد موقفه بخصوص قضية اللفظ والمعنى قائلا : "... وأنا أقول أبدا إن
الألفاظ خدم للمعاني لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها"([10]).
فهو
يعبر من خلال تصريحه هذا عن تصور جمالي عميق للعملية الإبداعية التي لا ينظر فيها
إلى الألفاظ من حيث هي ذوات معجمية جامدة لا تجرؤ على مباينة المصطلح عليه دلاليا،
وإنما ينظر إليها بعد أن تكون قد نسجت في إطار إبداعي معين، وأصبحت تتمتع بدلالات
سياقية يحكمها الوضع الشعوري ومقام القول. ولعل هذا التصور النقدي المتقدم الذي
بلوره الشريف الرضي هو الأساس الذي بنى عليه عبد القاهر الجرجاني نظريته في النظم.
فقد ردد ما قاله الشريف الرضي بالحرف تقريبا حين صرح بأن الألفاظ : "خدم
للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها"([11]).
وبناء
على هذا التطابق بين ما بلوره الشريف الرضي، وردده عبد القاهر الجرجاني اعتبر د.
زكي مبارك هذا الأخير تلميذا للشريف الرضي في هذا الميدان قائلا : "فعبد
القاهر الجرجاني عندي تلميذ الشريف الرضي في الميادين البيانية، وليس كتاب
"دلائل الإعجاز" إلا خطوة ثابتة بعد كتاب "المجازات النبوية"([12]).
وتتعمق
عندي هذه التلمذة حين النظر في "مجازات القرآن"، وفي حقائق التأويل
اللذين لم يطالعهما د. زكي مبارك يومها. ففي هذين المؤلفين تتوضح معالم نظرية
النظم تصورا وإنجازا، ويبدو الشريف الرضي عالما بأسرار اللغة، ومدركا إدراكا
يقينيا لعملية التزاوج التي يحدثها المبدع بين الألفاظ والمعاني.
والشريف
الرضي وهو يؤكد على هذا المبدأ لا يصدر عن تصور مذهبي أو رؤية عقدية أحادية، وإنما
يصدر عن رؤية فنية كلية غير مؤسسة على مبدأ المفاضلة بين اللفظ والمعنى الذي حكم
الناقد العربي القديم، وإنما هي مؤسسة على مبدأ التكامل والتكافؤ الضروري،
والمحكوم بشروط التفاعلات الوجدانية والمقامية. فالألفاظ ما لم تنخرط في سلك عملية
إبداعية معينة تظل غير ذات قيمة جمالية. وهذا هو قصده من كونها خدما للمعاني.
ويقوي هذا الفهم تأكيده بصراحة في بعض أشعاره على هذا التكامل والتكافؤ. فهو يقول
(من السريع) ([13])
لا يَفْضَلُ المعنى
على لفْظِه شيئا، ولا اللفظُ
على المعنى
فاللفظ
والمعنى متكافئان ومتحدان تبعا لوحدة الدفقة الشعورية التي تحكم العملية الإبداعية
وتوجهها.
2-1-1-
الحذف والزيادة :
من
المباحث البلاغية التي حظيت باهتمام الشريف الرضي ونظر من خلالها إلى طرائق
التشكيل الجمالي في معالجته للمجاز في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف.
فالحذف عنده : "أبلغ في الفصاحة في أصول العربية"([14]).
والحذف عنده أيضا: "إنما يحسن في الكلام إذا كان فيما يبقى دليل على ما
يلقى"([15]).
ومن نماذج اعتماده هذا المكون البلاغي
آلة في ترشيد فهم النصوص قوله في رد بعض التأويلات : "وقد أغفل أبو علي أن
يورد فقه المسألة، ويكشف عن حقيقة تقدير الكلام في هذه الآية، لأنه إذا ذهب إلى أن
الكلام على ظاهره، وأن الأنبياء هم المأخوذ عليهم الميثاق، لأن يؤمنوا بالرسول
المصدق لما معهم، إذا جاءهم دون أممهم، فالمسألة قائمة بحالها، وما انكشف موضوع
السؤال فيها، لأن السائل قال : كيف يصح إيمان النبيين الماضين بالنبي الآتي ؟ وكيف
يجوز أن يكون الكلام على ظاهره في قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) ؟
والرسل لا تبعث إليهم الرسل !
وحقيقة
الكلام عندنا، أن فيه تقدير مضاف محذوف، فكأنه سبحانه قال : ثم جاءكم ذكر رسول أو
علم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، ومعنى جاءكم ذلك أي : وجدتموه في كتبكم
وعرفتموه من الوحي النازل عليكم"([16]).
وينص
الشريف الرضي على ضرورة احترام مبدإ تمايز الأنماط الخطابية في اعتماد هذا المكون
البلاغي، لأنه ليس حلية زائدة وإنما هو لبنة جوهرية في الإبداع يستجيب لسياقات
معينة ولا يستجيب لأخرى. وعلى ضوء هذا الفهم الذي يبدو فيه الرضي محرجا يخشى
الوقوع في دائرة الدعوى على الله سبحانه وتعالى، لأنه إن أقر بأن الحذف والزيادة
يعمد إليهما حين الإحساس بضيق في العبارة، فسيقدح في ذات الله المنزهة عن أي نقص.
على ضوء هذا الفهم المؤسس على قاعدة درء الشبهة أوقف الرضي الحذف والزيادة على
الشعر، ورخص بهما للشاعر دون غيره. فقال : "... الزيادات والنقائص في الكلام
إنما يضطره إليها ويحمل عليها الشعر الذي هو مقيد بالأوزان والقوافي، وينتهي إلى
غايات ومرام، فإذا نقصت أجزاء كلامه قبل لحاق القافية التي هي الغاية المطلوبة،
اضطر الإنسان إلى أن يزيد في الحروف فيمد المقصور، ويقطع الموصول، وما أشبه ذلك،
وإذا زاد كلامه – وقد هجم على القافية فاستوقفته عن أن يتقدمها، وأخذت بمخنقه دون
تجاوزها – اضطر صاحبه إلى النقصان من الحروف، فقصر الممدود، ووصل المقطوع، وما
أشبه ذلك، حتى يعتدل الميزان، وتصح الأوزان.
فأما
إذا كان الكلام محلول العقال مخلوع الحذار، ممكنا من الجري في مضماره، غير محجور
بينه وبين غاياته، فإن شاء صاحبه أرسل عنانه، فخرج جامحا، وإن شاء قدع لجامه فوقف
جانحا"([17]).
ومن
المباحث البلاغية الأخرى التي شدد الرضي على مركزيتها في تجويد الرسالة الفنية نجد
التكرار، والالتفات، والفصل والوصل، ومعاني الحروف([18]).
2-1-
الناقد الأدبي :
سجل
الرضي في ثنايا بعض مؤلفاته مواقف ملحوظة في النقد الأدبي، تعين دون ريب على تحديد
أسلوبه في المعالجة والتقويم. وسنعتمد في هذا الصدد على ما سطره من أحكام نقدية في
سياق دراسته لمقطوعتين من الشعر العربي إحداهما لأبي إسحاق الصابي والثانية لشاعر
لم يذكر الصابي، الذي طلب من الرضي الحكم بينهما، اسم صاحبها.
وإنما
اعتمدنا هذه الرسالة النقدية لشموليتها وإلا فالشريف الرضي كان يسجل أحكاما نقدية
هامة في سياق حديثه عن المجازات النبوية ومجاز القرآن، وفي غير هذا السياق.
قال
أبو إسحاق الصابي في الرسالة التي بعثها له طالبا منه الحكم بين المقطوعتين :
"ثم أنفذت ذلك إلى حضرة سيدنا الشريف النقيب أبي الحسن محمد بن الحسين بن
موسى الموسوي، وسألته أن يحكم بين المقطوعة الأولى، وبين أبياتي، ويذكر ما يختاره
منها. فأجاب أدام الله تأييده بما هذه نسخته"([19]).
وجاء
جواب الشريف الرضي متضمنا مجموعة من الأحكام النقدية التي تنم عن وعي عميق بصناعة
الشعر، والتي هذا عرضها :
فقد
افتتح الرضي جوابه قائلا : "وقفت، أطال الله بقاء مولاي ورئيسي الشيخ وأدام
عزه وتأييده، وكفايته وسعادته ونعمته، على جميع الأبيات التي تضمنتها رقعته،
وأقرنت بها مخاطبته، وأمعنت النظر فيها والتقري لها، وإعمال الخاطر في البحث عن معانيها،
والمقابلة بين هواديها وتواليها، فرأيت كل مقطوعة من مقاطيعه الخمس التي جاش خاطره
بها، وأجرى رونق طبعه فيها، تزيد على البيتين اللذين حذا فيما قاله حذوهما، وسلك
مبرزا طريقهما، في جودة المعاني، وصحة المباني، وسلالة الألفاظ، وسلامة الصدور والأعجاز،
وتناسق الكلام وتمازج النظام"([20]).
ثم
ذكر البيتين اللذين لم يذكر أبو إسحاق الصابي صاحبهما بالاسم، وقال معلقا عليهما
إن معناهما : "معنى مطروق من النظم والنثر جميعا، وقد كثر تجاذب الشعراء
أهذابه، وقرعهم أبوابه حتى صار جملا مذللا، وطريقا معبدا، وكالشيء المألوف الذي لا
يرتاح له إذا كرر، لا كالشيء الغريب الذي يهش إليه إذا ذكر"([21]).
ثم
استشهد بأبيات لكل من حارثة بن عمران والمتنبي في المعنى ذاته معلقا :
"فالمعنى متقارب، والغرض مقارب. وما يجري هذا المجرى من الشعر لا يستحسن إلا
ممن سبق من المتقدمين إلى قوله، وكان أبا عذره، فأما المحدث الذي قد نخل الأشعار
الكثيرة، وتصفح الدواوين القديمة، وكان متبعا لا مبدعا، وحاذيا لا مخترعا، فلا
ينبغي له أن يتعرض لمعنى قد سبق إليه، فيورده على جهته من غير زيادة عليه، فتكون
الفضيلة للأول باختراعه وتقدمه وتكون النقيصة له باحتذائه وتأخره"([22]).
وجزم
بعد ذلك، أن الشاعر المحدث إذا لم يجتهد في ابتداع المعاني، وهتك حجب الغامض منها،
والإضافة إلى ما ابتدعه الأوائل منع فضيلة القدماء والمحدثين على السواء، وبقي
متحركا في دائرة الإتباع والتقليد وهو ما يقدح في شاعريته.
وقال
في التعليق على أبيات أبي إسحاق الصابي : "قد ابتدع في حفظ السر معاني لم
يسبق إليها، وألفاظا لم يشارك فيها، ولعمري لقد أحسن المتنبي أيضا لما نحا هذا
النحو"([23]).
ثم
ذكر بيتا للمتنبي في معنى السر، وعلق عليه بقوله : "وإن كان قد أخذه من
الأول"([24]) يقصد الحارث بن خالد المخزومي. وأتى ببيتي هذا
الأخير ثم قال معلقا إن المتنبي سرق معناهما : "فشن عليه غارته وأعلق به
حبائله، ونقله من معنى الحب إلى معنى السر فتموه على السامع وتشبه على
العالم"([25]).
ثم
أردف ببيتين لأبي إسحاق الصابي في معنى السر فقال معلقا : "فهو أحسن من
المعنى الأول ظاهرا ومفتشا، وأغزر ماء ورونقا، لأنه يفيد ذلك المعنى ويزيد عليه
بغرابة الغرض ولطافته، وحسن اللفظ وفصاحته. وما أحسن ما جعل قبول الأذن للسر
بمنزلة اللقاح، وخروجه منها إلى اللسان بمنزلة المخاض، ثم أحال ذلك عليها لشدة
كتمانها وضبطها للسانها، وهذه استعارة واقعة موقعها، ومقرطسة غرضها"([26]).
ثم
علق على بيتين آخرين بقوله : "فقد أتى (يقصد قول الصابي) فيه بمبالغة معجبة،
واستعارة مستعذبة لإيراده في البيت ذكر الألية والحنث، وما انتظما من المعنى
الأنيق والنظام الرشيق. وهو آثر في نفسي من معنى البيتين الأولين أيضا"([27]).
وفي
تعليقه على معنى بيت آخر قال : "فهو معنى غريب ما سمعت بأظرف ولا أطرف منه،
وهو يشهد لنفسه بأنه أعذب ما قيل في معناه، وأغرب وأخصر وأقرب"([28]).
واستطرد
الرضي في التدليل على شرف معنى أبيات أبي إسحاق ثم ختم قائلا : "وقد أجبت أيد
الله مولاي ورئيسي الشيخ، بما سمح به خاطر البديهة، ولم أنتظر به خواطر الروية.
وحكمت بما لم أعدل فيه عن العدل، ولم أزغ عن جوَادِّ الحق، ولم أمل على الأول
متحملا، ولا ملت مع الآخر مجاملا، ولكنني قضيت قضاء من يده مغموسة في هذه الصناعة،
وهو موسر من هذه البضاعة، والله الموفق للصواب، والقائد إلى نهج السداد، وهو حسبنا
ونعم الوكيل"([29]).
- نسقية
الحكم النقدي عند الرضي :
بعد
هذا التحليل نجمل ما سطره الرضي من أحكام نقدية على النحو الآتي :
-
أنه لا يصدر حكما إلا
بعد ترو وإعمال نظر في مجموع مادة درسه.
-
أنه يعتمد الموازنة
والمقارنة مقياسا.
-
أنه يؤكد على جودة
المعنى وصحة المبنى.
-
أنه يؤكد على سلاسة
الألفاظ، وسلامة الصدور والأعجاز.
-
أنه يطلب توافر
الكلام على التناسق والتمازج.
-
أنه يدعو إلى
الابتعاد عن المعنى المطروق.
-
أنه يدعو إلى
الابتعاد عن التكلف لأنه دليل على نزارة الطبع.
-
أنه يطالب الشعراء
المحدثين بالاجتهاد في اختراع المعاني وابتداعها.
-
أنه يعتمد العدل
مقياسا في استصدار الأحكام دون ميل مع هوى أو مجاملة.
وبالنظر
في هذه الشروط التي يشدد الرضي على ضرورة توافرها في النص الشعري لضمان جودته،
يبدو الرضي ناقدا مجربا قد وعى معنى الإبداع، وخبر مفهوم عمود الشعر الحق. فهو
يؤكد على إحساس المعنى بصدق لضمان صدق العبارة، وينهى بالمقابل عن تكلف العواطف
لأن ذلك مدعاة للعي وسببا في تهافت القيم التعبيرية، وفي تقليص الأفق الإبداعي من
حوالي الشاعر.
وهو
إذ يصدر هذه الأحكام، ويعتبرها أساسا لضمان جودة القصيدة لا يتكلم من موقع الناقد
فقط وإنما يتكلم من موقع الشاعر المبدع الحق، والباحث البلاغي المتفرد، دون ريب،
ليقف على سر اللغة، وليمنح آراءه أكبر قدر من الواقعية والعلمية.
3-
الناقد الشرعي :
لقد
حمل الشريف الرضي في سياق معالجته لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
على مناقشة بعض الآراء بالاعتماد على مقياس المقارنة والترجيح، أو الرد والتضعيف،
وأيضا باعتماد وحدة النسق في المنظومة الدينية الإسلامية التي لا تتعارض في شيء،
وإنما تتكامل من خلال أصولها، وعبر كل أحكامها ومضامينها. وكذلك بالتركيز على
اللغة باعتبارها الوعاء الأوحد لهذه الأحكام والمضامين. ونعرض فيما يلي لأسلوب
الرضي ومنهجه في التفسير والتأويل من خلال بعض القضايا :
- منهجه
في معالجة المتشابه :
لا
يعتمد الرضي في معالجته متشابه القرآن أفكاره وقناعاته الشخصية أو المذهبية مقياسا
في الفهم والتأويل، وإنما يلتمس تأويله الحق في القرآن الكريم نفسه. وهو ما يدلل
على مدى ابتعاده عن كل مسببات الادعاء والافتراء والتسيب في استصدار الأحكام؛ يقول
في هذا الصدد : "إن من أصلنا رد المتشابه من الآي إلى المحكم منها. كما بينا
أولا. وقد ورد في القرآن من ذكر الإزاغة ما بعضه محكم وبعضه متشابه، فيجب رد
متشابهه إلى محكمه على الأصل الذي قررناه.
فالمتشابه
من ذلك قوله تعالى ههنا : ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا﴾
وهذا لا يجوز أن يكون محمولا على ظاهره لأنه يقودنا إلى أن نقول إن الله سبحانه
وتعالى يضل عن الإيمان... لأن من صفة المتشابه ألا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه،
فوجب رده إلى ما ورد من المحكم في هذا المعنى"([30]).
فاعتماد
التأويل ضرورة وإلزام وليس اختيارا لأن المتشابه ما لم يؤول لا يعطيك أصل دلالته.
غير أن إلزامية التأويل لا تعني، حسب الرضي، إطلاق العنان للنفس والعقل لإثبات ما
يرضيهما وإنما المعول في الفهم على المحكم من القرآن. وهو ما يمكن أن نقول معه إن
منهج الرضي في التفسير والتأويل يقوم على تفسير القرآن بالقرآن. وهذا غاية
الاعتدال والاتزان.
ويجسد
الرضي هذه القناعات المنهجية بالاعتماد على :
أ-
النحو والقراءات :
لا
يكاد الرضي يعالج مسألة من المسائل ولا آية من الآيات ولا حديثا من الأحاديث دون
التركيز على هاتين الآيتين (علم القراءات وعلم النحو) أو على إحداهما. وذلك
لإدراكه أهميتهما في القراءة والتأويل، ولدقة نتائج التأسيس عليهما. وكان الرضي في
هذا السياق لا يقبل إلا ما استجاب لشروط الفصاحة، ودلت عليه القرائن، ووافق روح
التعبير العربي. كل ذلك ينص عليه لإدراكه أن الإعجاز القرآني هو إعجاز في اللغة
وفي المعنى.
ومن
نماذج تركيزه على اللغة في تسديد التأويل قوله : "وقال بعضهم : "إن في
قوله تعالى ﴿لا
يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين﴾
ليس بنهي، وإنما هو خبر، فكأنه تعالى قال : إن هذه صفة المؤمنين ألا يتخذوا
الكافرين أولياء". وهذا خطأ من قائله، وذلك أن الأمر لو كان على ما ظنه لكان
يكون (لا يتخذ المؤمنون) برفع الذال، ولم يكن بجزمها، وكسرها لالتقاء الساكنين،
فكونها مكسورة يدل على أنها نهي لا خبر، على أنه أمر لو كان كما قاله لكان المعنى
مقاربا لمعنى النهي، لأنه لا يجوز أن تكون هذه الصفة صفة المؤمن إلا وهو مأمور
بموالاة المؤمنين، منهي عن موالاة الكافرين"([31]).
ومن
نماذج تركيزه على الإعراب في الفهم وقوله : "وقال بعضهم : إنما قال سبحانه :
(لن تقبل توبتهم)، لأنهم تابوا من الكفر الزائد، وثبتوا على الأصل الثابت، فلذلك
كانت توبتهم غير مقبولة. وقيل بل تابوا من الكفر الأول، ولم يتوبوا من الكفر
الثاني، فكان كفرا واقعا بعد التوبة، فلذلك لم تقبل منهم.
وقد
يجوز عندي – والله أعلم – أن يكون المراد بذلك (لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون)
أي : لا تقبل توبتهم وهم على هذه الصفة من كونهم ضالين، فيكون قوله تعالى :
(وأولئك هم الضالون) حالا، ولا يكون ابتداء وخبرا، فنفى تعالى قبول التوبة منهم
وهم في حال الضلال، كما بينا أولا، لا يجب قبولها إلا مع الإخلاص والتحقيق، وبقاء
العقد والضمير"([32]).
إن
منهج الرضي في التأويل ينحو منحى العلمية والتدليل. فهو لا يصدر الأحكام ويطلقها
على عواهنها جزافا وإنما يؤسس بناء على مراتب ورود اللفظ، وإمكانات الفهم المنطقي.
وفي ذلك دليل قوي على تمسكه بمعاني النحو. وإنه في هذا الصدد يذكرنا بنظرية النظم
عند عبد القاهر الجرجاني التي تعود إليه في نشأتها من دون ريب. وقد أصاب أبو الفتح
ابن جني كبد الحقيقة حين قال في وصف هذا الكتاب : "... وصنف (يقصد الرضي)
كتابا في معاني القرآن يتعذر وجود مثله دل على توسعه في علم النحو واللغة"([33]).
وفي
نفس هذا الإطار يأتي تركيزه على القراءات في فهم النصوص وتوجيه القراءة كما في
المثال الآتي : "وقد اختلف القراء في قراءة (لما آتيتكم من كتاب وحكمة)،
فقرأنا لحمزة بن حبيب (لِمَا مكسورة)، لأنها لام الإضافة؛ وقرأنا لباقي القراء
السبعة (لَمَا) مفتوحة، لأنها لام الابتداء، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم (لِمَا
مكسورة) مثل حمزة؛ وقال مجاهد في كتاب القراءات السبعة : "وذلك غير محفوظ عن
حفص"([34]).
ب-
الموازنة والترجيح :
في
سياق تأويله لمجموعة من الآيات كان الشريف الرضي يستشهد بآراء العلماء في هذا
الباب، وكانت تحمله هذه العملية الاستقرائية على تبني رأي دون آخر لعلة غير العلة
المذهبية أو العقدية التي أفسدت استنباطات كثير من لعلماء. وكان لا يركن إلى رأي
معين إلا بعد لآي. ونورد فيما يلي مثالا على نهجه هذا : ففي سياق تأويله لقوله
تعالى : ﴿فانكحوا
ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع﴾([35])
استشهد بتأويلات بعض العلماء، ومنهم الجاحظ والمبرد. وبعد الموازنة وتقديم الأدلة
رجح رأي المبرد على رأي الجاحظ؛ قائلا : "ولعمري إن الجاحظ لا يشق غبار محمد
بن يزيد في علوم القرآن، والتفنن فيه واستنباط غوامض معانيه ! وحُكِيَ لي عن أبي
بكر بن مجاهد : أنه كان يقول : ما رأيت أحسن جوابا من المبرد في معاني القرآن
لاسيما فيما ليس فيه قول لمتقدم"([36]).
وبعيدا
عن أي تعصب مذهبي، وفي هدأة العالم العدل الذي لا تهزه ريح حمية عقدية، وإنما تهزه
الحقيقة العلمية الواضحة، قال الرضي في معرض تأويله للآية السابقة : "فأما
الاستدلال بهذه الآية على جواز نكاح التسع، فهو مذهب لبعض علماء آل البيت عليهم
السلام، إلا أنه ضعيف في نفسي من وجوه :
أحدهما،
أن مثنى وما بعده لا يصلح في عرف أهل اللغة إلا لاثنين اثنين، واثنين اثنين على
التفريق، لا على الجمع والضم، فإذا ثبت ذلك كان تقدير الكلام : "فانكحوا ما
طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رباع في غير
الحالين"([37]).
ومنها،
أن كلامه تعالى أفصح الكلام وأشده انخراطا في سلوك الفصاحة وإبعادا في مرامي
البلاغة، وليس من البلاغة أن يقول القائل – إذا أراد أن يعلمنا أنه أعطى زيدا تسعة
دراهم - : أعطيت زيدا درهمين وثلاثة وأربعة، فيفرق العدد في مثل هذه الحال، لأن
قوله : أعطيته تسعة دراهم، أخصر وأقصر، وهو بمذاهب البلغاء أشبه وأليق"([38]).
لقد
بدا الشريف الرضي من خلال هذا العرض الموجز ناقدا متمرسا قد حاز من المؤهلات
العلمية والنفسية ما جعل منه ذلك الناقد العدل الذي لا يثنيه عن الجأر بالحقيقة
هوى مذهبي، ولا حرج عقدي. إنه الناقد الذي أدرك عمق العبارة مبنى ومعنى ونظاما،
وخبر دورها في تسديد أساليب التعبير، وفي تصويب ما شذ عن جادة الحق. وأي سلوك غير
هذا سيرد عليه، ويسحب منه صفة العدل والاتزان والتريت والتروي التي من صفات العالم
الحق.
إن
الشريف الرضي وإن لم يخلف كتابا مستقلا في النقد، فحسبه أنه قد بَزَّ كثيرا ممن
خلفوا أكثر من كتاب في النقد. فكثيرا ممن كتب في النقد كانت أدواته ضعيفة، ومواهبه
كليلة، وزوايا نظره ضيقة، وهو ما جعل منه عالة على النقد والنقاد عامة.
4-
منوال الكتابة :
لقد
عصفت كما هو معلوم صروف الدهر بغالبية نثر الشريف الرضي، ولم تذر منه سوى نزر
يسير. غير أن هذا لا يمنع من تلمس خصيصات ترسله الفني في هذا النزر اليسير الفاضل
الذي تمثله الرسائل التي بعث بها إلى أبي إسحاق الصابي في إطار ما تبادلاه من
مكاتبات فنية. وتمثله أيضا مقدمات بعض مؤلفاته.
ويبدو
الشريف من خلال ما فضل من نثره كاتبا مقتدرا قد نضجت أدواته التعبيرية، واستقامت
له الصنعة أيما استقامة. وهو ما يقوي عندنا الاعتقاد بصحة الرأي القائل بأن رسائله
كانت في أربعة أجزاء([39]).
وحسب الشريف في هذا أن يقول عنه أبو إسحاق الصابي أحد أبرز أقطاب الكتابة الفنية
في القرن الهجري الرابع : "فو الله ما قرع الأسماع أحسن من نظمه إذا نظم،
ونثره إذا نثر... فلو استطعت أن أسعى إلى أنامله التي سطرت تلك البدائع، ورَصَفتُ
تلك الجواهر، لفعلت مُسَارِعاً حتى أودعهن عن كل حرف قبلة، وأستلمهن جملة ؛ إذ كن
للفضائل معادن، وللمحاسن مكامن"([40]).
وتحكمه
في نثره كما في شعره تلك الروح العالية، وذلك الاعتزاز بالنفس، وذلك التطلع إلى
غير موطوء. وهذا ما جعل أسلوبه قويا رصينا، وعلى درجة عالية من النضج الفني. تشع
منه عفوية الضمير، ويعبق بصدق العواطف، وسلامة الفطرة. ليس يكتنفه قبح تعمل، ولا
دمامة تكلف. وعنه قال الباخرزي : "... وإن نثر حمدت منه الأثر، ورأيت هناك
خرزات من العقد تنفض، وقطرات من المزن ترفض"([41]).
ولا
أعتقد أن الرضي كان سيكتب أقل من هذا فنية، وهو الشاعر الفحل والباحث المجرب الذي
خبر عمق اللغة تصورا وإنجازا.
فهو
عندي يقدم مفهوما جديدا للكتابة، ويعبر عن تحول عميق في مفهوم الأجناس الأدبية.
فإذا كان القرن الرابع الهجري قد عرف خلافات بين الكتاب والشعراء([42])
حين أحس هؤلاء بمضايقة الكتاب لهم. وهو ما يعمق استقلالية الأجناس الأدبية عن
بعضها البعض. فإن الرضي قد قدم الدليل على أن هذا الخلاف هو خلاف في النفوس، وليس
خلافا في الفن. وأن الشاعر الحق هو كاتب بالضرورة؛ لأن لغة الفن هي في العمق لغة
واحدة تبعا لوحدة الإحساس، وليست متعددة بتعدد الأجناس. ولعل فيما قاله د. زكي
مبارك دليلا قويا على هذا الذي نذهب إليه. مؤكداً بأن أسلوبه : "مضمخ بعطر
الأدب الرفيع"([43]).
إن
الشريف قد جرب كل الأشكال التعبيرية التي عرفها زمنه، وأتى فيها بما يحمد وزيادة،
وأسس لمجموعة من التحولات التي عرفها الحقل الإبداعي العربي القديم، ومن جملتها
مفهوم الكتابة الذي يحتاج لبحث مستقل.
ونعرض
فيما يلي لخصائص أسلوبه في الكتابة الفنية (النثر) وفي التأليف العلمي :
4-1- الكتابة الفنية :
إن
أهم ما يطبع أسلوب الشريف في الترسل الفني :
أ-
الجزالة والرزانة،
وتحديد الألفاظ بحد المعاني، والابتعاد بالمقابل عن حشو القول الذي إنما يؤتى به
لتحقيق بعض التنميق في العبارة دون شرف في المعنى. ومن أمثلة هذا قوله في رسالة
تعزية بعث بها إلى أبي إسحاق الصابي: "... وانقلبت والكلام يزدحم في فمي
استقصاء لها (للتعزية)، واستكثارا منها. ولم يحتمل المواضع إيراد بعض ما ترجع في
الصدور، وطما على القلب فضلا عن كله. فأحببت أن أقضي حقه في نفسه أولا، ثم حقي في
المحافظة على وده آخرا. وأن أنفث ما التبس بجناني من القول القائد إلى الصبر،
والدال على حسن المنقلب والأخير"([44]).
ب-
تسجيع القول على نحو
بين ؛ وهو بذلك يؤكد على اختيار النهج الرصين الموروث في بناء الجملة النثرية.
فإذا كان ما انتهى إلينا من نثر (الجاهلية)، على قلته، قد انبنت جملته في معظمها
بناء سجعيا. وإذا كان الشريف مشدودا بقوة إلى قوميته العربية في بداوتها، فطبيعي
أن يحتفي بهذا المكون البلاغي على النحو الذي احتفى به (الجاهليون)، ومن نحوا
نحوهم، ومن أمثلة كلامه المسجوع قوله: "إلى كم، جعلني الله فداك، هذا الهم
والجزع، وفيم هذا القلق والهلع، وأنت المرء يوصف حلمه، والجليد يعرف حزمه، والصبور
على تحامل النكبات، والقوي على قراع الرزيات. فالتفاتا إلى ورائك واعتبارا
بقربائك. هل أبقى الزمان على آبائك فيبقي على أبنائك؟ أم هل أضرب عن أصولك فتأمل
أن يضرب عن فروعك ؟ فكيف تستشعر الحزن والأسف، وتستبطن الكمد والغصص، وأنت العارف
بأن الإنسان وديعة مسلمة، وعارية مسترجعة"([45]).
ومن
هذا أيضا قوله في مقدمة المجازات النبوية : "... فيها كثير من الاستعارات
البديعة، ولمع البيان الغريبة، وأسرار اللغة اللطيفة، يعظم النفع باستنباط
معادنها، واستخراج كوامنها، وإطلاعها على أكمتها وأكنانها، وتجريدها من خللها
وأجفانها، فيكون هذان الكتابان بإذن الله لُمعتين يستضاء بهما وعرنينين لم أسبق
إلى قرع بابهما"([46]).
ج-
احتفاء الشريف بالازدواج احتفاء واضحا. وذلك لإدراكه استحسان الأذواق لما بني هذا
البناء. ومن نماذجه قوله في مقدمة نهج البلاغة : "فإني كنت في عنفوان السن،
وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام: يشتمل على محاسن
أخبارهم وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام،
وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام، وعاقت عن إتمام بقية
الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام"([47]).
4-2- الكتابة العلمية :
ونعني
بأسلوبه العلمي منهجه في معالجة القرآن والحديث. ويتميز أسلوبه في هذا اللون من
البحث بالسهولة والليونة البينتين اللتين يتخيل معها القارئ أنه إنما يطالع لغة
صحفية معاصرة أو دون ذلك. ولعل الشريف وهو يسلك هذا المسلك كان على وعي تام بأن
هذا النمط الجديد من البحوث جدير بسلاسة الأسلوب، وسهولة المبنى حتى يصل إلى ذهن
المتلقي دون عنت. ومن هذا قوله في التعليق على قوله تعالى : ﴿الله
يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون﴾([48]).
قال : "وهاتان استعارتان فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء على الله سبحانه
والمراد بها أنه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم فسمي الجزاء على
الاستهزاء باسمه إذ كان واقعا في مقابلته وإنما قلنا إن الوصف بحقيقة الاستهزاء
غير جائز عليه تعالى لأنه عكس أوصاف الحكيم، وضد طرائق الحليم"([49]).
ومن
هذا قوله في التعليق على هذا الحديث : "الرحم تتكلم بلسان طلق دلق تقول : صل
من وصلني"([50]).
قال الشريف : "... وهذا الكلام مجاز، والمراد أن الله سبحانه قد أوجب على
خلقه صلة الرحم، وأمرهم بالعطافة عليها، والقيام بالحقوق الواجبة لها. فصارت بهذه
الحال كأنها ناطقة بالحض على صلتها، والدعاء لمن وصلها"([51]).
ومما
يقوي ما ذهبنا إليه، من أن تصانيف الرضي تنحو نحوا تعليميا تربويا، ذلك التمايز
الحاصل بين مقدمات هذه المؤلفات وباقي مضامينها. ففي المقدمة تقف على عبارة جزلة
قوية مسجوعة أو مزدوجة ترشح بنغمة فخرية متعالية بينما تقف في باقي الفصول على لغة
سهلة منقادة ليس فيها عنت ولا تمنع.
خاتمة:
إن
الشريف أقدر على أن يرتدي لكل مقام رداءه. فأنت إن قرأت شعره قلت إنه شاعر لا حياة
له خارج القصيد، وإن أنت قرأت نثره قلت إنه كاتب لا يجيد غير الترسل، وإن أنت
طالعت أحكامه النقدية قلت إنه ناقد ليس عنده بين الرد والاستحسان مرتبة ثالثة، وإن
أنت قرأت مؤلفاته العلمية قلت هذا فقيه اعتقد في أن الشعراء لا يتبعهم إلا الغاوون
فصد عن الشعر صدودا كليا.
كل
ذلك يقال لأنه عالم عبقري أدرك بنفاذ بصيرته أن العلم كل لا يتجزأ، وعقيدة لا
تنثلم، فتهاوت من حواليه الحواجز، وتساوت في وعيه كل الأشكال التعبيرية قيمة
ووظيفة وغاية. إنه شاعر سعى إلى أن يكون شاعرا لا كباقي الشعراء، وإنه عالم رام أن
يكون عالما لا كباقي العلماء، وقد أدرك شأوه، وحسبه ذلك نصرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق