الخميس، 9 أكتوبر 2014

الاتساق القرآني في سورة "ق"


1-الاتساق القرآني: سؤال  النشأة والتطور
الاتساق ميزة جمالية تضمن للخطاب تعادل الأجزاء وتوازيها وروعة التأليف وبراعة النظم وتفضي به إلى الاستحسان  من لدن المتلقي ، كما أنها تكلأه بالمقابل من أن تمجه الأذن وتغشي منه النفس وينفرمنه الطبع .وقد أدرك الشعراء  والنقاد مند القدم القيم الجمالية للتناسق الفني والمعنوي ،خاصة وأن الشعر العربي هو شعر تواز بكل ما تحمله  الكلمة من معنى ، نظرا لتأسيس بعض على بعض ،فعابو على بعض من قد أخلو بها اخلالهم ، وأبرزوا مواطن النقص في قولهم ، بل طعنوا أحيانا في شاعريتهم . أما فيما يخص الدرس القرآني ،فقد تفطن كثير من الصحابة ومنذ المراحل الأولى من حياة الدعوة ،الى بعض أشكال التناسق في القران الكريم بوازع من استفسار بعض المسلمين عن السر في وجود هذه الآية بجوار هذه ، وعن طبيعة النظم والتناسق المعنوي بين أية وأخرى في سياق السورة الواحدة .ومع اتساع دائرة  الفتوحات الإسلامية وتنامي سيادة الأمة مرق بعض الطاعنين في سلامة النظم القراني فنعتوه بتنابد الأوصال وتناجز الأجزاء وتباين الوحدات الدلالية ، وأدعو انه ليس سوى أضغات قد حشرت حشرا ، الأمر الذي حفز العلماء المسلمين وحظهم ، ومنذ  وقت مبكر من تاريخ البحث القراني ، على الدرس والتقصي  للرد  أولي الزيغ والمرية . غير ان فكرة الاتساق في القران لم تبرز بشكل ناضج ومتخصص إلا في بداية القرن الهجري الرابع مع الإمام أبي  بكر النيسابوري (ــ 324هــ ) الذي يعد أول من عكف على البحث في هذه القضية على نحو من التخصص .

الخميس، 9 يناير 2014

بلاغة النص الشعري




















تعريفات أولية للبلاغة


خلافا لكلمة نقد، عرف مصطلح البلاغة عند العرب عدة تعريفات، وهي تعريفات تعود إلى لحظات متقدمة في نشأة الثقافة العربية الإسلامية، وتميزت بتحديدها "للبلاغة" باعتبارها خطابا لغويا جماليا يتصف بجملة خصائص أسلوبية وتعبيرية، ومميزات فنية وتركيبة، كما اتسمت بتركيزها على جانب من جوانب ذلك الخطاب، بهم الأسلوب التعبيري عامة، أو مكون من مكوناته الصوتية والدلالية، أو خاصية من خصائصه الأسلوبية والإيحائية، دون أن يعني ذلك أن تركيزهم ذاك يحصر بلاغة الخطاب في المستوى المتحدث عنه، لأن البلاغة في التصور العربي القديم، سواء في لحظات النشأة والتشكل، أو في لحظات النضج والتطور كانت في تصور العرب صفة للخطاب الجمالي في كليته، وليس باعتبار جزء من أجزائه أو مكون صغير من مكوناته. ولئن كانت لحظات النضج تبرز ذلك، فإن مما يدعمه ويؤكده اتسام لحظة تبلور الوعي بقيمة البلاغة ومميزاتها، ببداية نشأة المصطلحات وتشكلها، ولذلك جاءت كثير من المفاهيم معبرا عنها بمصطلحات وألفاظ متداخلة لغويا وغير ناضجة ومستقرة اصطلاحيا، وهو امر استمر حتى حدود بدايات القرن الرابع للهجرة، فكانت البلاغة عامة يقصد بها البيان، كما هو الحال مع الجاحظ، ويشار إليها بالبديع، كما هو الشأن لدى ابن المعتز، كما كان اللفظ يستعمل أحيانا بمعنى الكلمة، وكان المعنى يراد به الصورة الفنية المرتسمة في الذهن.
وبالعودة إلى التعريفات الأولى للبلاغة نلمس بعضا من هذا، من ذلك ما أورده ابن رشيق القيرواني ( ت 456 هـ) في كتابه: العمدة، بحيث قال:
« سئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: " في اللسان" يريد البيان.
وسئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال: قليل يُفْهَم، وكثير لا يُسْأم.
وقال آخر: البلاغة إجاعة اللفظ ، وإشباع المعنى.
وسئل آخر فقال: معان كثيرة، في ألفاظ قليلة.
وقيل لأحدهم: ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحُسْنُ الإيجاز.
وقال خلف الحمر: البلاغة لمحة دالة.
(...) قيل لأرسطاطاليس : ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة.»[1]

يتبين من هذه التعريفات أن البلاغة عرفت تحديدات متعددة عند العرب قديما، ولم يكن الأمر، كما سبق القول، يعود إلى اضطراب في التعريف، أو خطأ فيه. إذ من المعلوم في تاريخ العلوم أن اختلاف التعريفات وتباينها للموضوع الواحد ليس ناتجا عن الخطأ وغياب الضبط والتدقيق، ولكنه يعود إلى اختلاف زوايا النظر إلى ذلك الموضوع، وأحيانا إلى صعوبة ضبطه وتحديده لكونه يستعصي على كل محاولة للضبط والتحديد.
ويبدو أنه إذا تم النظر على هذا الأساس لمختلف تعريفات البلاغة كما أوردها العمدة فسيتبين أن الرسول (ص) ركز في تحديده للخصائص التعبيرية التي تميز الخطاب اللغوي على البيان باعتباره صفة بديعية للأسلوب تتحقق نتيجة رقيه التعبيري ورفعته اللغوية، ومن ثمة فهو قدرة على الارتقاء بالكلام إلى درجة عالية من الجمال التعبيري. ويبدو أن ما أجمله (ص) في حديثه قد فصلته الأقوال اللاحقة، بحيث أبرزت أن البلاغة شقان: دلالي تصوري؛ وتعبيري تلفظي. فالأول يرتبط بالمعنى وما ينطوي عليه من افكار وصور، والثاني يتصل بطرائق التعبير عن هذا المعنى.
وعليه، فالقول بأن «البلاغة قليل يُفْهَم، وكثير لا يُسْأم» معناه أنها خطاب صادر عن ذات معينة تتوجه به إلى ذات أخرى، يحمل مضامين معينة ويروم إبلاغها بوضوح ودون ملل، ويروم هذا الخطاب تحقيق التفاعل بين الذاتين والتجاوب النفسي والذهني بينهما، سواء كان طويلا أو كان مقتضبا.
أما القول إن «البلاغة إجاعة اللفظ ، وإشباع المعنى»  فيتصل بجانب آخر من بنية الخطاب ومضمونه يهم التكثيف والتركيز المحقق للثراء الدلالي والإيحائي بما لا ينعكس سلبا على بنية العبارة ومقدارها التلفظي. ولئن كان هذا التعريف يعني أن البلاغة خطاب مختصر وموجز ينطوي على عدد هائل من الدلالات والتعبيرات والإيحاءات الفنية والجمالية، فإنه يشي بأن الحديث عن البلاغة لا ينفصل عن تناول المستويين التلفظي والدلالي للخطاب اللغوي، وتحديد الخصائص التعبيرية لكل منهما، وهو ما يتضح من التعريف الموالي الذي يعتبر صاحبه أن البلاغة تتحقق من خلال إيراد «معان كثيرة، في ألفاظ قليلة» ، كما يتضح ذلك أيضا من  « إصابة المعنى وحُسْنُ الإيجاز » اللذين اعتبرا أساس البلاغة وجوهرها .
ومما لاشك فيه أن تركيز التعريفات السابقة على حسن الإيجاز والاقتصاد في اللغة وإيلاء العناية الكبرى للمحتوى التعبيري والإيحائي مقارنة بالجانب التلفظي كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن البلاغة في تصور أصحاب التعريفات السابقة تحقق بالتلميح وليس بالتصريح، وتنتج عن الإشارة المقتضبة وليس المفصلة، وذلك لأنها خطاب يقول أشياء دون أن يفصح عنها كليا، ويراهن على ذكاء المتلقي وحسن فهمه وإعمال ذهنه وخياله لتمثل الصورة المقصودة والمعنى المستهدف، وهذا ما لخصه خلف الأحمر في تعريفه لها بحث قال: « البلاغة لمحة دالة.»
أما تعريف أرسطو، فإنه يطرح أكثر من سؤال حول العلاقة أولا بين تصوره للبلاغة والتعريفات السابقة، والعلاقة بينه وبين أصحاب تلك التعريفات، ومن ثمة مدى صحة هذا التعريف المنسوب إليه، ثم مدى تأثير تصوراته في التراث النقدي عند العرب، وغير من ذلك من التساؤلات التي تحتاج إلى وقفة خاصة.